البراجماتية .. توجه ذو حدين



عبدالله مسعود الجهني



( كيف نجعل أفكارنا واضحة ) هذه الجملة كانت عبارة عن عنوان لمقال كتبه الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس في عام 1878 ، وقد أشار بيرس في هذه المقالة إلى أن " عقائدنا إنما هي في الواقع قواعد للعمل والآداء " ، وبعد مرور عشرين عاماً تنبه إليه وليم جيمس وأضاف عليه ونشره على الناس باسم البراجماتية ، وأصبح مبدأ بيرس وما أدخله عليه جيمس من تطوير وما أضافه جون ديوي يعبر عن أحد أشهر الحركات الفلسفية في العصر الحديث وأكثرها تأثيراً وانتشاراً في العالم .

        والبراجماتية مشتقة من كلمه يونانية تعني العمل النافع أو المزاولة المجدية ، فالمقصود منها هو العمل المجدي أو النفعي ، وترى أن المنفعة العملية هي مقياس الحق من الباطل ، وهي تنظر إلى الله على أنه ليس إلا واحداً بين معاونين كثيرين في وسط جمهرة صانعي مصير العالم .

        وتعتبر البراجماتية في ظاهرها اتجاهاً يعبر عن واقع الحياة ، فالإنسان مع اكتشاف الآلة والتحولات الصناعية بدأ يتغير في تعاطيه للحياة ، فبعد أن كان يسعى لتحقيق أقصى الراحة والسعادة من خلال التعلق الروحي بالإله ، تحول ليشبع حاجاته في تحقيق الذات عن طريق الكسب والإتجار ، والبحث عن المنفعة والمصلحة التي تحقق له أكبر قدر من الحاجات ، وبذلك ارتبطت حاجات الإنسان المعاصر مع توجهات البراجماتية في العمل والمنفعة .

        ومن خلال التأمل في أبرز أفكار الفلسفة البراجماتية يتضح أن أفكارها تدور حول أربعة محاور ، يمكن تصنيفها من العام إلى الخاص على النحو التالي :

أولاً / الوجود والحياة : ويرتكز هذا المحور على عدد من المبادئ والأفكار البراجماتية التي توضح طبيعة الإنسان، وفهم الوجود ، وحالة الأشياء ، والأفكار ، والتسليم بوجود الله ، والتعددية ، والقيم ، والديمقراطية ، ويمكن إيجاز أهم أفكار هذا المحور على النحو التالي :

-    الإرادة والمصلحة الذاتية لهما الأولوية القصوى في طبيعة الإنسان ، والمعرفة ليست إلاّ أداة لتحقيقهما .

-    الطريق إلى فهم الوجود هو التفكير ، والذي تثيره مشاكل الواقع ، وبدون التفكير لن يتم فهم الوجود .

-    جوهر العالم متغير لا ثابت ، فكل شيء في حالة تغير وفي صيروروة وحركة مستمرة لا تتوقف .

-    التسليم بوجود الله ، وبالإيمان به ، وتلك حقيقة نافعة لها آثارها الناجحة في حياة المؤمنين .

-    العالم أساسه التعدد لا الوحدة .

-    الديمقراطية هي الأسلوب الأمثل للحياة .

 

ثانياً / الحقائق والقيم : ركز البراجماتيون على الحقيقة وكنهها ، والسبب في البحث عنها ، واعتبروا القيم نسبية وليست مطلقة ، وفي هذا المحور تم طرح عدد من الأفكار والمبادئ التي تسير عليها الراجماتية ومنها :

-    الحقيقة هي كل ما يؤدي بالإنسان إلى الوصول إلى غرضه .

-    للوصول إلى الحقيقة فإن السبيل الوحيد هو تكرار التجربة .

-    القيم نسبية ، ولا يمكن الوصول إلى قيم مطلقة .

-    الأفكار والرموز لا معنى لها منفردة .

 

ثالثاً / التجربة والعلم : في هذا المحور تم التركيز على أن كل الأفكار والعلاقات لا بد وأن تخضع للتجربة والطريقة العلمية ، حتى وإن لزم الأمر تكرار التجربة للوصول إلى المنفعة ، ومما أفرزته البراجماتية من أفكار في هذا المحور ما يلي :

-    إذا لم يكن الأمر نابعاً من التجربة ، فلا يمكن أن يكون له تأثير مباشر في السلوك .

-    التجربة هي السبيل الوحيد للوصول إلى الحقيقة .

-    الطريقة العلمية هي أسلم طريقة لاختبار الأفكار .

-    أسلوب التفكير الأمثل هو المنهج العلمي .

 

رابعاً / المادية والمنفعة : وهنا لُب الفكر البراجماتي ، حيث يتعتبر كل ماسبق تمهيد للوصول إلى المنفعة التي تقوم عليها البراجماتية ، وأن العمل هو الأساس الذي تتضح فيه المنفعة ، حيث ركزت الأفكار على ما يلي :

-    أن النجاح المادي الملموس دليل على صحة السُبل المتبعة .

-    أن الوسيلة المحققة لكسب المال هي وحدها الوسيلة الفعالة .

-    كل أنواع الخبرات لا بد أن تفهم في ضوء الغرض البشري منها .

 

        وعلى ضوء ماسبق يمكن القول أن الفلسفة البراجماتية أصابت الحقيقية في بعض مبادئها وأفكارها ، وطورت العديد من الأساليب في كل مناحي الحياة ، فإنسان العصر الحديث أصبح في حراك مستمر بحثاً عن اشباع حاجاته ، وكــل ماعلى الأرض من ذوي العقـول يسعــون للـكسب والمنفعة ، بالإضافة إلى أن الفـلسفة البراجمـاتية ســاهمت بقـدر كبير في تنمية التفكير الناقد ، والاتجاه إلى الأساليب والطرق العلمية في البحث ، كما أدت أفكارها إلى وضع تشريعات وضوابط للمؤسسات الربحية وغير الربحية .

        ومع ذلك ، ورغم كل تلك الإيجابيات إلاّ أن الفلسفة البراجماتية لها العديد من السلبيات التي لا تقبلها عقيدة ، ولا يؤيدها منطق ، وترفضها العديد من المجتمعات ، خاصة إن تغلغلت أفكارها في النفوس ، ذلك أن محاولة التشكيك في الخالق ، والقيم ، والحقائق يعتبر لغالبية العقلاء حماقة محدثة .

        فقد تغلبت المنفعة على الإنسانية ، واختفت معها قيم سامية كالتعاون والتكافل الاجتماعي ، فالمجتمعات البراجماتية أصبحت تقيس صحة الأفكار بما يترتب عليها من نتائج نافعة ، والقيم الإنسانية عندما تقاس بالمنفعة فإنها تفقد صفتها كقيمة وتصبح سلعة أو وسيلة للتفاوض ، فالأمانة والصدق والتضحية في نظر البراجماتية لن تكون قيم إلاّ إذا قيست بمدى المنفعة التي ستتحقق من خلف استخدامها ، وهذا يعني أني كمسلم لا أنظر إلى صلاتي وصيامي كعبادة لله وحدة ، بل أنظر إليها على أنها وسيلة لتحقيق منافع دنيوية .

        أخيراً ، فإن الأفكار البراجماتية أصبحت واقعاً يمارس في كل المجتمعات بلا استثناء ، ولا ينكر ذلك إلاّ جاهل أو غير ملم بالأوضاع التي تعيشها المجتمعات والعلاقات بين الأفراد ، وما يلزمنا هو معرفة الصواب والخطأ في تلك الأفكار ، والتفريق بين ما يقيمه العقل ، وتدعو إليه القيم ، وتحققه المنفعة ، فالأفكار البراجماتية اهتمت وبالغت في المنفعة ، واستخدمت لذلك العقل والجسد ، وأهملت الروح ، لذلك على الإنسان الواعي والمدرك للحقائق أن يجعل للروح نصيباً من تطبيقات البراجماتية من خلال استشعار أهمية القيم التي منحنا الله إيها لعمارة الأرض بما يرضيه عنّا ، ومستحضراً شعيرة التكافل الاجتماعي ، وأنه مثلما يقدم المساعدة اليوم سيحتاجها غداً .     

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوكمة في مؤسسات التعليم العام

التعليم المتمايز .. من أجل العدالة بين الطلاب

سلسسلة مواضيع في القيادة المدرسية | 2 |