توظيف الحرية في العمل التربوي
عبدالله مسعود الجهني
تعتبر الحرية من أهم القيم الممارسة في كافة المجتمعات البشرية
، وإن اختلفت حدود ممارساتها والقيود المفروضة عليها من مجتمع إلى آخر بسبب
العادات والتقاليد والأعراف المتبعة في كل مجتمع ، والذي بدوره يضع القوانين
لممارسة تلك الحريات بناءً على الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ويستند
على ذلك إلى مرجعيات التشريعات السماوية و السلطة الحاكمة .
ويمثل العمل التربوي إحدى أهم المجالات التي يمارس فيها الفرد
الحرية ، وإن كانت الحرية في العمل التربوي تُقهر وتُستعبد بفعل الأنظمة الحازمة ،
والإجراءات الرتيبة ، والتسلط المطلق ، والحد من حرية التفكير ، فالإدارة العليا
تريد تطبيق البرامج التي تقررها على الطلاب دون أخذ لاعتباراتهم وحرياتهم ،
وإدارات المدارس تسعى إلى تطبيق الأنظمة والقوانين دون العمل بروح النظام ليطلق
عليها إدارة ناجحة ، والمعلمين يسعون للعمل داخل فصول صامتة ينقلون معارفهم للطلاب
دون النظر لجعل الطالب يُعمل تفكيره ويستثير قدراته ، فهو متابع من قبل مشرفين
وإدارة لإنهاء المقررات خلال فترة زمنية محددة ، وعملية التقويم توحي للطلاب
بالحفظ فقط دون تفكير بالإجابة .
كل تلك العوامل وغيرها جعلت من ممارسة الحرية في العمل التربوي
مجرد تنظير في مدينة فاضلة ، فأصبح الطالب يشعر بنوع من الكبت والقهر والتسلط ،
مما أدى إلى إنعكاسات تربوية خطيرة على الطلاب ، ظهر معها تمزيق الكتب الدراسية ،
وإيذاء الناس في الطرقات ، وتخريب الممتلكات العامة ، وغيرها من السلوكيات الناتجة
عن التسلط على حريات الطلاب ، وهنا لا يلام الطالب فما يفعله ماهو إلاّ ردة فعل
لما يعانيه من قهر بفعل الممارسة المنقوصة لقيمة الحرية داخل المدرسة وبأسباب
تربويين يفترض منهم تعويد الطلاب على الحرية المنضبطة .
إننا هنا لا نؤيد التسيب وعدم الإنضباط والالتزام فهي أيضاً
تحد من الحرية التي تمارس داخل المدارس ، كما يفعل الالتزام الصارم بالأنظمة ، وفي
المقابل فنحن نؤيد أن يكون للتعليم هيبة ووقار واحترام لا تتعارض مع منح الحرية
للطلاب ، كما أننا جميعاً نحتاج إلى أن نزرع في نفوسنا قبل الطلاب قيم ومبادئ
وأساليب الحرية المنضبطة والتي نسعى لأن تكون منهجاً تطبيقياً في العمل التربوي
داخل المدارس والجامعات ، وحتى في العلاقات الإنسانية خارج النطاق المدرسي
والتعليمي .
إن
العمل التربوي يقتضي تقديم المساعدة للطفل ليتعلم ، والتعلم يكتسبه الطفل من خلال
الممارسة والتطبيق والتعاون مع مجموعة الزملاء وإعمال فكره وفضوله بالأسئلة
وإشباعه من خلال توجيهه للعمل الصحيح ، ومتى ما وجد الطفل تلك العوامل ميسرة له
فإن ممارسته لحرية الرأي وحرية التفكير وحرية العمل ستكون مهيأة وسهلة الحصول ، وبالتالي
سيمارس الحرية في بيئة مساعدة ومحفزة لا تسلط فيها ولا كبت ولا قهر .
ولن
يتأتى ذلك إلاّ إذا اعترفت المؤسسة التربوية أن الطفل كائن نشط مستقل يمكنه أن
يفعل مايشاء ، وأن دورها هو جعل الطفل يمارس حريته بحيث لا تتعارض هذه الحرية مع
النظام ، وأن تدرك المؤسسة التربوية أن وضع قيود على ممارسة الحرية سيؤتي بنتائج
عكسية مالم تكن تلك القيود في صالح الطلاب .
إن منح الطلاب الحرية في التفكير والعمل ، وتعويدهم
الاعتماد على النفس ، وتحمل المسؤولية اثراً كبيراً في خلق النظام وتكوين الأخلاق ، إذ يتصف
الجو المدرسي الحر بالنشاط والحياة وحب العمل والانتباه والتعاون بين الإدارة
والمعلمين والطلاب ، وهذه الروح وحدها تكفي لنجاح وتدعيم النظام وتغني عن استعمال
الثواب والعقاب في المدرسة .
فالطلاب الذين يُمنحون
الحرية ويعتادون على تحمل المسؤولية يزيد ولائهم لمدرستهم ، ويبذلون كل جهدهم في
سبيل تقــدمها والنهــوض بها ، فإذا اريــد للطـــلاب النمــو المتـكـامــل لا بــد
أن يســود مـفــهـوم الحــرية في الــمدرسة وأن يعــطى الطلاب قدراً من الحرية
يستطيعون الإفادة منها في نطاق قدر مناسب من النظام والقوانين الخلقية وقواعد
السلوك المهذب التي تضعها المدرسة والتي يجب أن يخضع لها الطلاب وليتعلموا بهديها
ضبط أنفسهم طائعين مختارين .
إن توظيف موضوع
الحرية في العمل التربوي وفق رؤية عصرية متميزة تتلائم مع ظروف الواقع ومقتضياته
تتطلب تعاون جميع الجهات المسؤولة عن التربية في الدولة بدءً من الأسرة ومروراً
بالمجتمع بكل ما يحويه من مؤسسات وبدعم من السلطة الحاكمة ، لتحقيق الحرية المثالية
المنضبطة والمعتدلة ، ويمكن أن ينعكس ذلك في العمل التربوي من خلال :
1-
أن
يأخذ القائمون على العملية التربوية الفروق الفردية بين الطلاب في الحسبان ، حيث
لكل طالب قدرات واهتمامات وجهد وأنشطة ونوعية تفكير تختلف عن الآخر ، فلكل طفل أن
ينمو وفق قدراته دون أن يشعر بالإكراه .
2-
أن يدرك
المسؤولين عن التعليم أن تحديد المواضيع المعرفية للطالب من خلال المناهج الدراسية
( المقررة ) تقتل فيه حرية التعلم ، وتحد من الإبداع ، فكم من طالب تجاوز تفكيره
مستوى المواضيع المقررة في المناهج الدراسية ، فالأحرى أن تكون المناهج مجرد عدد
من العناوين ، ويمنح الطالب حرية اختيار ما يناسبه ويتوافق مع قدراته وإمكانياته .
3- فاقد الشيئ لايعطيه ، لذلك من الضرورة أن تتحرر عقول المعلمين والمديرين من كل النظم التربوية القديمة بما تحمله من تسلط وقسر في أسلوب الإدارة وتصميم المناهج ، واستراتيجيات التعليم ، واستبدالها بحرية التفكير والعمل والنشاط القائم على الأساليب والاستراتيجيات الحديثة .
4- أن يدرك القائمون على التربية أن الحرية في كل زمان ومكان لا يمكن
أن تتحقق إلا بسيادة العقل وتنظيمه للرغبات والأهواء ، لأن العقل هو ماهية الإنسان والحرية معاً ، وأن
التربية التي لا تقوم على حرية إعمال العقل والتفكير والتأمل ، هي تربية هشّة
ومسببة للقهر وداعية للتسلط .
5- أن أساس منح الحريات للطلاب في المؤسسات التربوية هو إحلال التفكير
الناقد والتأملي ، بدلاً عن التلقين والحفظ المتبع في الوقت الحالي ، وترك الحرية
للطالب لممارسة حياته ليتعلم ويدرك الإيجابيات والسلبيات من خلال التطبيق والعمل
لما يصل إليه فكره من معلومات ، فهو أفضل من أن يتلقى الأوامر والنواهي دون تجريب
، وأدعى لبقاء المعلومات ورسوخها في نفسه .
6-
أن الحرية لا يمكن أن تعيش أو تصان ، أو أن
يكون لها معنى إنساني إلاّ إذا نمت وعاشت داخل المجتمع ، فالمجتمع هو الوسط
الطبيعي للحرية
، و أول منبت للحرية هو الأسرة ، لذلك فعلى المؤسسات التربوية تفعيل وسائل الإعلام
المدرسية من خلال النشرات والتوجيهات وعقد مجالس أولياء الأمور ، لتمكين طلابها من
ممارسة فعلية للحرية داخل الأسرة ، وتشجيعهم على التفكير الناقد وإبداء الرأي في
شؤون الأسرة ، تطبيقاً لما تعلموه في المدارس وتثبيتاً لمفهوم الحرية المنضبطة
والمعتدلة في حياتهم .
ختاماً ، مهما حاولنا أن نمارس التسلط ، فإن العالم من حولنا في انفتاح
مستمر ، فإما أن نتقوقع في داخل محيط تسلطنا فلا نخرج للعالم ، وإمّا أن يثأر من
مارسنا التسلط في حقه ، فيكون فعلنا وبالاً علينا ، ووصمة عار تلاحق جيلنا فيشار
إلينا بالتخلف والرجعية بعد سنوات متعددة من صحوة جيل الحرية القادم .
تعليقات
إرسال تعليق