التربية وأعداء الحداثة

 


د. عبدالله مسعود الجهني
 

يتوجس البعض الشك والريبة عند التطرق لموضوع الحداثة ، وينبع ذلك الهاجس من مقاومة التغيير والرهبة من الجديد ، والنظر إلى التغيير باعتباره عدواً للعادات والتقاليد والقيم ، وربما يتجاوز في نظرهم إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير فيربطون ما أنتجته الحداثة من تقدم وتطور بالمساس في التشريعات والعقائد ، هذا حال البعض مع الحداثة ، أمّا عند تناول ما وراء الحداثة فسيتحول الشك والريبة إلى عداء واستعداء لكل من يتقول بها فيصفونه ببعض المفردات التي تستثير المجتمع ضده .

ففي عالم اليوم لن يكون بوسع أي مجتمع من المجتمعات أن يعيش بمعزل عن المجتمعات الأخرى ، فالحداثة تغلغلت في المجتمعات ، وأصبحت مطلب لتحقيق التنمية المستدامة ، بل وتجاوزت ذلك لتكون هدف سياسي لتطوير القوى البشرية ، وكل مجتمع مارس الحداثة ومازال يمارسها ، بل ويسعى إلى أن يمارسها الأفراد حسب المتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإن يكن إسلوب تعاطيها وتطبيقها وممارستها تختلف من مجتمع إلى أخر ، إلاّ أن ما قدمته الحداثة أصبح في كل منزل وفي متناول كل فرد في شتى أنحاء العالم .

إن مفهوم الحداثة يعتبر من أشد المفاهيم إثارة للجدل ، نظراً لأنها بحد ذاتها تستعصي على التحديد ، وترفض التوصيف ، ويرجع ذلك لاختلاف وجهات نظر المفكرين والفلاسفة حول طبيعة الحداثة ومضامينها ومحتوياتها ، فمنهم من تناول الحداثة من منظور ديني تهدف إلى تفسير جديد للعقائد والمذاهب ، ومنهم من اعتبر الحداثة عملية تحديث وتحول من المجتمعات التقليدية البسيطة إلى المجتمعات الحديثة المعقدة تكنلوجياً ، ومنهم من يرى أن الحداثة ما هي إلاّ ظاهرة حضارية خاصة تتعارض مع النمط التقليدي .

ونظراً لاختلاف وجهات النظر حول مفهوم الحداثة ، فقد تم ربط بعض المصطلحات لتكون مرادفة لمفهوم الحداثة أو مفسرة لها ، وهذا الربط للمصطلحات أدى إلى تقبل بعض المجتمعات للحداثة بكل ما فيها بينما مجتمعات أخرى تقبلت ما يناسبها ومجتمعات رفضت الحداثة بشكل قطعي نظراً لارتباط تلك المصطلحات أو بعض منها بمفهوم الحداثة ، ولعل من أبرز تلك المصطلحات : العصرانية ، والعقلانية ، والعلمانية ، والعولمة .

فما مـاهـية تلـك المصطــلحــات ؟  وما هــو دورهــا في قـبــول الحــداثة أو رفـضـهــا ؟ وهــل هـنـاك تـضــاد بـين تــلك المصطلحات وبين تطبيقات الحداثة ؟ وما موقف المجتمعات من تلك المصطلحات ؟ ، ولماذا تُرفض بعض المصطلحات وتُقبل مصطلحات أخرى ؟

فمصطلح العصرانية والمقتبس من كلمة العصر يرجع إلى معنى الوقت والزمن الحاضر ، وأيضاً يعني المعاصر ويعني هنا التقدم الاجتماعي والاقتصادي لتناسب روح العصر الذي نعيش فيه ، والمصطلح بحد ذاته يعتبر من المصطلحات المتداولة في كل الأزمان الماضية والحاضرة والمستقبلية ، فما هو عصراني أو عصري في هذا الوقت سيكون بدائياً ومتخلفاً في العصور القادمة كما كان المتخلف والبدائي في العصر الحالي يعتبر متقدماً ومتطوراً في العصور الماضية .
إلاّ أن ما أثير حول هذا المصطلح هو أبعد بكثير عن المعنى الحقيقي له ، إذ ارتبط هذا المصطلح بحركة النقد التاريخي الكاثوليكية للكتب الدينية حيث كانت غاية هذه الحركة هو تحديث الفكر الديني والتوفيق بينه وبين الآراء العصرية في الفلسفة والتاريخ والسياسة والاجتماع ، بالإضافة إلى ذلك فقد أُطلق هذا المصطلح على كل ما يقدمه الغرب من حضارة وتقدم مادي وعلمي فأنتج إحساساً عاماً بأن الغرب هو المرادف للعصرانية ، وبذلك امتزج هذا الإحساس بالمشاعر الدينية عند الشعوب فرفضت بعضها استخدام المصطلح وتقبل ما هو قادم من خلاله .

أمّا العقلانية فقد عُرفت بأنها مذهب فلسفي ، يرى أن كل ما هو موجود مردود إلى مبادئ عقلية ، وأن العقل له الأولوية في التفسير والتحليل والتركيب والتعليل دون النظر إلى المبادئ والتشريعات الدينية ، فالعقلانية تتجه إلى الإيمان الكامل بقدرة العقل في الاستدلال والبرهان ، مع الاكتفاء به وتحكيمه في كل شيء .
وهنا يؤخذ على الفلسفة العقلانية أنها تهمل الدين والوحي والخالق في وجود بعض الظواهر وتعتمد على العقل اعتماداً كلياً والذي يمثل بالنسبة لها التجريب ، وذلك أن في التشريعات السماوية ما يتجاوز المنطق والعقل في الحبكة والخلق ، ولكن لا يعني ذلك إهمال العقل ، فالعقلانية ضرورة للتفسير وضرورة للتعليل وضرورة للتفكير الناقد والتأمل .

بينما العلمانية تستخدم كمصطلح يشير إلى مدخل للحياة ينفصل تماماً عن الدين ، وهي حركة تتوجه إلى صرف الناس عن اهتمامهم بالآخرة إلى الاهتمام بالدنيا وحدها ، وتصل العلمانية إلى تحرر الإنسان من السيطرة الدينية ، فالعلمانية تهدف إلى تهميش الدين وتحجيمه في نطاق مخصص ، فهي تفصل الدولة عن الدين ، كما تفصل التربية عن الدين ، وتهتم فقط بحرية الفكر وأن من حق الإنسان أن يعتقد بنفسه ما يريد .

في حين تشير العولمة إلى العمليات التي تندمج فيها شعوب العالم في مجتمع عالمي موحد ، تسعى إلى الانتشار الواسع المدى في كـل أنحاء العالم للإنتاج والمبيعات وعمليات التصنيع ، فـهي تؤسس لحضارة إنسانية عالمية جــديدة تقــوم على قيم وافتراضات ومفاهيم موحدة تجعل من العالم قرية واحدة .

إن كل تلك المصطلحات والمفاهيم المتعلقة بالحداثة تلقي بظلالها على المجتمعات بطريقة أو بأخرى ، وبالتالي تتأثر بها المجتمعات وتؤثر الحداثة على المجتمعات ، ومن أبرز ما تؤثر فيه الحداثة المجال التربوي ، والذي ينبغي عليه أن يأخذ بأفضل ما تنتجه الحداثة ليتطور ويتجدد بناءً على معطيات العصر ومتطلبات التنمية وحاجات الأجيال .

ومن أجل تربية حداثية للأجيال لا بد من التغيير في الأساليب القديمة ، ولا بد من التربية الإبداعية الانفتاحية ، ويلزم التربية الحديثة أن تأخذ في اعتبارها الأساليب الحوارية بدلاً عن التلقين ، واستخدام التفكير الناقد في المناهج وأساليب التدريس ، وأن تكون التربية مستمرة بدل أن تكون وقتية ، وتُسلم بالديمقراطية لتحل محل السلطوية ،

أمّا تربية ما وراء الحداثة ، فينبغي أن تخلق المهارات الحياتية للطلاب وتجعله قادراً على الحكم وتقدير الأشياء من خلال تنمية مهارات التفكير الناقد لديه ، وأن يكون هو الباحث والمستقصي للمعلومة ، وأن يكون حراً فيما يريد أن يتعلمه ، ولا بد للطالب في تعليم ما بعد الحداثة أن يكون على اطلاع بثقافات الشعوب الأخرى فقد يوجد فيها ما يتناسب مع مبادئه واتجاهاته ، أمّا المعلم فدوره هو نقل الفكرة للطالب والطالب له حرية تقبلها أو رفضها .

تعليقات

  1. الله يذكرك بالخير ياأستاذ عبدالله

    لك فضل عليا بعد الله كنت معامي قبل 23

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوكمة في مؤسسات التعليم العام

التعليم المتمايز .. من أجل العدالة بين الطلاب

سلسسلة مواضيع في القيادة المدرسية | 2 |