الثقة في قبول أفكار الآخرين
عبدالله مسعود الجهني
منذ أن يولد الفرد وهو يهب ثقته
للآخرين ، إلى أن يتسع تفكيره فيبدأ في منح الثقة لمن يثق بهم ويحجبها عن عديمي
الثقة من وجهة نظره ، والتي غالباً ما ترتبط بتوافق مانح الثقة مع ممنوحها بالمعتقدات
والمبادئ والقيم التي يؤمن بها الواثق ، وهنا يختلف الأفراد في تصنيفهم ، فمنهم من
يمنح الثقة المطلقة للآخرين مهما كانت توجهاتهم الفكرية ، ومنهم من يتوسط ويعتدل
في منح الثقة ، وآخرين شكاكين بطبعهم لايمنحون الثقة إلاّ في حالات نادرة ومقيدة .
فبعد
الولادة يثق الفرد بوالديه في تأمين حاجاته الفسيولوجية من الطعام والماء ، ثم يثق
أيضاً في والديه وأسرته بمنحه الأمن ، إلى أن يصل إلى المدرسة فيمنح معلميه الثقة
في كل ما يقدمونه من معارف ومعلومات ، وهنا تكمن كوارث التعليم في بعض البلاد ،
فليس كل المعلمين أكفاء في منح الثقة لهم ، وليست كل أفكارهم وتوجهاتهم تستدعي
الأطفال أن يثقون بها ويسيرون على نهجها ، فقد تخالف أفكارهم حقيقة أفعالهم ، وقد
تنبع أفكارهم من طبيعة تكوينهم النفسي والاجتماعي ، فإما أن تنحى إلى الفضيلة بكل
مبادئها وقيمها ، وإما أن تتجه إلى الرذيلة بكل ماتحمل من مساوئ وشرور .
تساؤلات حول الثقة وأفكار الآخرين :
يقودنا
التفكير والتأمل بمفهومي الثقة وأفكار الآخرين من حيث علاقتهما والآثار الناجمة عن
ارتباطهما إلى عدد من التساؤلات التي تحتاج إلى بحث متعمق في ماهية الثقة ومنحها ،
ومن أهم تلك التساؤلات في هذا المجال :
- هل
منح الثقة ينبع من العقول أم القيم ؟
- هل
نثق بأفكار الآخرين أم لابد من التفكير الناقد بأفكارهم ؟
- متى
نقبل أفكار الآخرين ومتى نرفضها ؟
- هل
منح قبول أفكار الآخرين يقيد حرية الرأي ؟
ماهية الثقة :
الثقة
هي الحالة التي يكون فيها الإنسان متأكداً من كفاءة أو دقة أمر مايتعلق به أو بشخص
آخر ، وفي حــالة الأشخــاص ، من الممــكن أن تكـون تلك نــوع من التأكــد من ولاء
هــذا الشخــص تجــاه أشخــاص آخــرين أو قضايا معينة .
والثقة
تتضمن عدم الشك في اعتقاد الفرد الواثق بنوايا أو أخلاق الشخص الآخر ، فالصغير يثق
بالكبير ، والمرؤوس يثق برئيسه ، والطالب
يثق بمعلمه ، حتى المتورطين بأعمال إجرامية عادة ما يثقون ببعضهم البعض ، فالثقة
هي علاقة اعتماد بين اثنين ، والموثوق به يعتبر مؤتمن ومن المفترض أن يفي بأمانته
، فهي هنا رمز وقيمة أخلاقية ورد للأمانة .
وتعتبر
درجة ثقة الفرد بالآخر هي معيار إيمانه وتصديقه لأمانة الشخص الآخر ، وبناء على
معظم الأبحاث الحديثة فإن فشل وإنهيار أي ثقة من الممكن أن يتم مسامحته بسهولة إذا
كان الفشل ناتجاً عن ضعف في القدرة ، وليس قلة في الأمانة أو الصدق .
ومن
هذا المنطلق فإن الثقة تعتبر حالة عقلية ، لا يمكن قياسها بشكل مباشر ، والاعتماد
هو نتيجة مباشرة للثقة يمكن قياسها من خلال التصرف ، وبديلاً عن ذلك فإن الفرد من
الممكن أن يقيس الثقة بالإحساس مع أخذ الحذر في ذلك ، فالثقة من الممكن أن تعتبر
خيار أخلاقي ، ممايسمح للإنسان بالتعامل مع التعقيدات التي تتجاوز التفكير
العقلاني .
والثقة بالآخرين
مطلب لكل إنسان ، فالإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين ، حيث سيفقد الأمان
والاستقرار النفسي ، لذلك فإن الثقة بالآخرين مهمة جداً لكي تكون موازين حسناتنا
منسجمة مع بعضها البعض ، فالثقة تعني العطاء والحب والأخوة والصداقة والتعاون
والنصيحة إنها تعني الحياة .
وتعتبر الثقة
إحدى الركائز التي تجمع بين الناس في كافة التعاملات التي تتم بينهم ، فإذا وجدت
الثقة النابعة من الإخلاص شعر الفرد بنوع من الضمان لأي مبادرة قد يقدم عليها تجاه
الآخرين ، ولكن مع التطورات التي حدثت في المجتمعات وغلبة المصلحة النفعية أصبحت
الثقة بين الناس مفقودة ، لأن العلاقة بين الناس أصبحت علاقة استغلال ، وإذا ما
خسرنا الثقة بالآخرين فإنذلك يعني ببساطة خسارة مقومات التواصل بينهم ، ليقوم الشك
والحذر في العلاقات مقام الثقة .
تأثير الثقة بأفكار الآخرين والحاجة إلى التفكير :
غالباً لا يمكن
التحقق من تأثير الثقة بأفكار الآخرين إلاّ في المستقبل ، وخطورة هذا الأمر تكمن
في تراكم المعلومات والقيم عند الواثق من الموثوق به ، وبالتأكيد فإن ذلك سيؤثر
على المدى البعيد في أسلوب التفكير والتوجهات ، لذلك ظهرت مقولة ( الشك هو الطريق
إلى اليقين ) ، وهذا لا يعني إحلال الشك بشكل كلي محل الثقة ، ولكن أن تمنح الثقة
بعد تحليل وتأمل وتفكير ناقد لما يتلقاه الفرد من أفكار وتوجهات .
ومع
أن منح الثقة تشير إلى تأكد الإنسان من كفاءة وقدرة وعلم شخص آخر ، فهذا لايعني
التصديق بكل ما يحمله فكر الشخص الآخر ، فلا بد من تحليل دقيق لمحتوى الفكرة أو
المعلومة أو النصيحة بكل جوانبها الإيجابية والسلبية ، وعدم قبول الفكرة كون
صاحبها محل ثقة ، بل لابد من التأمل واستخدام التفكير الناقد قبل تقبل أي فكرة
كانت ، فقد يكون في ظاهر الفكرة الصلاح وفي باطنها ما لا يطابق القيم الأخلاقية
والدينية التي يؤمن بها الفرد .
فلا
تثق ثقة عمياء بمن تعتقد أنهم أكثر معرفة منك ، فلربما يخطئون أو يسيئون حل
المشكلة ، ولكن للأسف الشديد فقد تعود معظم الناس وخصوصاً نحن العرب ، على أن نثق
بشخصيات قد لا تكون مستحقة لهذه الثقة ، وكثيراً ما نعتمد على الآخرين في حل
مشاكلنا ، وهذا ما يزيد من تعقيد مشاكلنا ، ويعظم كوارثنا .
إننا عادة نؤمن بمن لا يستحقون
الإيمان ، ونقدس من لا يستحقون التقديس ، ونثق بمن لا يستحقون الثقة ،
فالعبارات الدارجة باللغة العامية مثل
( مع الخيل ياشقراء ) و ( الموت مع الجماعة رحمة ) وغيرها من الجمل قد تكون
هــي السبب في الــكثير مــن مشاكــلنا
وهمـــومــنا ، كمـا أن العـبارات المماثلة التي يرددها أبناء الشعوب العربية
الأخرى قد تكون هي أيضاً المسئولة عن العديد من مشاكلهم وهمومهم .
و لعل من ابرز الذين نثق بهم بصورة مبالغة، على الرغم من عدم استحقاق الكثير منهم لهذه الثقة، هم رجال الدين ورجال السياسة. فرجال الدين يدّعون احتكار الحقيقة ورجال السياسة يدّعون احتكار الحكمة. والمشكلة أن من بيننا من يصدق هذه الادعاءات. إن اعتقادنا بأحقية رجال الدين ، وحكمة رجال السياسة هو المسئول عن الكثير من أزماتنا وكوارثنا ، لذلك إذا أردنا أن يصبح حالنا أفضل علينا أن ننزع الثقة العمياء عن رجال الدين والسياسة، وعلينا أن نشك في صحة ما يقولون، ونتدخل في وضع الحلول، حتى لا يستمر تساقط طائرات الحياة بنا، واستمرار الخسائر في الأرواح والأموال.
إن التسليم والاستسلام لأفكار الآخرين
ينتج عن مدى ومقدار منح الثقة لهم ، ولكن هذا المدى والمقدار يختلف حجمه تبعاً
للاختلاف المصدر الذي عن طريقه تم منح الثقة .
ولا
اختلاف أن الثقة قد تمنح من العقل بعد إعمال التفكير والتأمل في شخصية الموثوق به
ومدى تأثيره وسلامة أفكاره وقوة حجته ، وأيضاً من خلال التفكير الناقد بآراء
وأفكار الآخرين ، فما يكون متوافقاً مع الأدلة والبراهين من أفكار الآخرين يتم
الوثوق بها ، وما لا يتوافق فإنه يُرفض ولايقبل ، و يشمل منح الثقة من خلال العقل
كل من السياسيين والعلماء والفلسفيين ومن يستخدمون الأدلة والبراهين في أفكارهم ،
أومن يثبت التأمل في أفكاره الصحة والدقة .
وتمنح
الثقة من القيم التي يؤمن بها الإنسان وتتوافق مع قيم الشخص الموثوق به ، ولعل منح
الثقة من خلال القيم وتوافقها مع الآخرين يعتبر من أخطر أنواع منح الثقة على
الإطلاق ، وذلك يدخل في الثقة المفرطة خاصة وإن كان صاحب القيم متطرف في قيمه
ومنحاز في مبادئه ، ونلاحظ هذا النوع كثيراً في الثقة الممنوحة لرجال الدين سواء
أكانوا مسملين أم يهود أم مسيحيين ، فمنهم المتطرف ومنهم المعتدل .
ولعل
من الأمثلة الواقعية التي نشاهدها الثقة المفرطة في رجال الدين والتي تصل إلى
منتهاها في العمليات الإنتحارية موعودين بحور العين حسب الأدلة والبراهين التي
يثبتها رجال الدين وتجد طريقها إلى أهواء مانح الثقة لتوافقها مع قيمه ومبادئه .
ورغم
أن لكل أسلوب من أساليب منح الثقة - سواء بمنحها عن طريق العقل والتفكير الناقد أو
بمنحها عن طريق التوافق في القيم والمبادئ - له إيجابيات وسلبيات ، إلاّ أن تحديد
طريقة معينة لمنح الثقة في قبول أفكار الآخرين ينبع من شخصية المانح ومستواه
العملي وقدرته الفكرية وقيم ومبادئ مجتمعه والشريعة التي يؤمن بها ، وبذلك فإن
الثقة تمنح بناءً على خلفيات نفسية واجتماعية وثقافية ودينية ، يحددها الفرد ويصبح
مؤتمن عليها من تكون فيه الثقة ، و هذا لايعني تفضيل أسلوب على أسلوب آخر ، ولا
يعني أن منبع منح الثقة لأفكار الآخرين محصور في هذين الأسلوبين ، ولكن المهم أن
لا تمنح الثقة وفق الأهواء والميول والرغبات المتطرفة أو المنحازة إلى رأي ، بل
يجب الاعتدال والوسطية في منح الثقة لكي لاتستغل هذه الثقة استغلالاً يودي بصاحبها
إلى حتفه ، فالثقة المفرطة تأتي في الغالب بنتائج عكسية لمن منح الثقة فيمن لا
يستحقها .
إن
أسلوب منح الثقة كما ذكرنا يعتمد على شخصية المانح وفي المقابل يتأثر بكاريزما
الممنوح وفلسفته وعلمه واتجاهاته وأفكاره ، ولكن السؤال المفتوح الذي لا بد أن
يؤخذ بالجدية ليجد إجابة يسير على هداها مانحي الثقة للآخرين هو : ما أفضل الطرق
لمنح الثقة لأفكار الآخرين أهي العقل وما يتبعه من تفكير وتحليل وتقويم لأفكار
الآخرين ؟ أم القيم وما تتصل بها من أخلاق وثقافة ودين ؟
نماذج من الثقة بقبول أفكار الآخرين :
سنورد في هذه
الأسطر نماذج من بعض المجالات لمحاولات الآخرين كسب ثقة الأفراد ، وللقارئ اكتشاف
منبع الثقة في كل مجال :
أولاً / النموذج السياسي :
في الانتخابات
السياسية يسعى كل مرشح لنيل ثقة الجمهور ، فيبدأ في عرض برنامجه الانتخابي والذي
في الغالب يصيغه مفكرين في المجالات النفسية والاجتماعية والسياسية ، وكل الهدف من
ذلك هو كسب الثقة في قبول أفكاره وبرنامجه ليتم الحصول على صوته في الانتخاب .
هنا يبدع
السياسيون في الجمع بين حاجات الجمهور النفسية والاجتماعية مخاطبين بذلك قدراتهم
العقلية من خلال المقارنات والتفكير في مستقبل الدولة ومستواهم المعيشي ، والأمثلة
في المجال السياسي متنوعة ومتعددة منها إصدار القرارات ، وتنفيذ برامج جديدة ،
وزيادة الضرائب ، ومكافحة الفساد .
ثانياً / النموذج الديني :
رجال الدين في
أي ديانة سماوية بالغالب تلعب خطاباتهم الدينية على وتر العاطفة والقيم ، ذلك أن
الإنسان بفطرته يتعلق بخالقه ، فيضع ثقته برجال الدين على اعتبار أنهم علماء
بالشريعة والفقه ، وصادقين في أقوالهم ، وسلوكهم يعكس مدى إلتزامهم بدينهم ، ومع
أن الناس قد ينخدعون بالمظهر الخارجي لرجال الدين إلاّ أن الغالبية منهم يثقون بهم
بناء على توافق قيمهم ومبادئهم وشريعتهم .
ففي أحد المذاهب
في الديانة المسيحية يعتبر قتل المسلم طريقاً إلى الجنة في اعتقاداتهم ، فيؤجج
رجال الدين لديهم حماس المنتسبين لهذا المذهب من خلال التلاعب بمشاعرهم الدينية
وقيمهم ومبادئهم ، فيثق الناس بأفكار رجال الدين في هذا المذهب دون إعمال التفكير
ونقده وتحليله .
وفي بعض المذاهب
المتطرفة والمنتسبة للدين الإسلامي نجد ايضاً الخطاب الديني يتلاعب بشكل كبير في قيم
ومبادئ المنقادين لهذه المذاهب من الناس ، فيضعون ثقتهم الكاملة وطاعتهم العمياء
في أيدي علماؤهم دون تمحيص أو مجرد تفكير في أفكارهم المتطرفة ، فنرى قتل المسلم
لنفسه من خلال التفجيرات والعمليات الإنتحارية ، ونشاهد قتل المسلم لأخيه المسلم
بسبب اختلاف المذاهب الدينية .
ولعل وجود تأثير
الثقة بأفكار الآخرين في النموذج الديني يكون ظاهراً بشكل كبير في الدين الإسلامي
لهو دليل على أن القيم والتشريعات الإسلامية لم تؤصل في نفوس المسلمين بشكل متوسط
ومعتدل بسبب المناهج الدراسية أو تربية وتنشئة المجتمع والأسرة أو عدم استخدام
التفكير الناقد في أمور الحياة ، أو السطوة والتسلط السياسي الذي تعيشه معظم دول
العالم الإسلامي .
ثالثاً / النموذج التربوي والتعليمي :
يعتبر النموذج
التربوي والتعليمي نموذجاً خصباً لملاحظة أثر الثقة بقبول أفكار الآخرين ، ففي
الأسرة يثق الطفل بوالديه ثقة مطلقة وعمياء ومنها يتشكل الفرد ومنحه الثقة للآخرين
، وفي الحي يتأثر الطفل بأقرانه الأذكياء والموهوبين والمؤثرين فيمنحهم الثقة
ويأخذ منهم الأفكار ، فكم من سارق تأثر بثقة سارق قبله ، وكم من متدين تأثر بثقة
متدين سبقه ، وكم من ناجح تأثر بثقة ناجح من أقرانه .
وفي المدرسة أول
مايجب على الأسرة والطفل تعلمه أن يثقوا بإدارتها ومعلميها ومناهجها وأساليب
التدريس فيها ، والأهم أن يثقوا بأن التقويم الذي تضعه المدرسة يقيس فعلاً مستوى
أبناؤهم ، وعلى الطفل أن يتقبل أفكار معلمه مهما تكن سلامتها ، فالطفل لايعي
التفكير الناقد بعد ، ولم يمنح له حتى الاطلاع على نماذج من التفكير الناقد ،
فطريقة المناهج الدراسية واساليب التدريس ووقته وقدرات المعلمين قد لاتسمح للطفل
بالتفكير ، ذلك أن الهدف من كل ذلك هو تجاوز التقويم ليحصل على النجاح .
إن الطفل يعطي
ثقته العمياء لمعلمه ، فيتقبل أفكاره ، ويتأثر بها ، وينشأ عليها ، وتكبر معه
الأفكار لتصبح سلوكاً يمارسه ، وهذا ما يمثل خطورة على الطفل في مستقبله ، إن كانت
الأفكار التي قبلها متطرفة ، أو لا تتماشى مع قيمه وعاداته ومبادئه .
ولعل من أبرز النماذج
التربوية والتعليمية في الثقة بقبول أفكار الآخرين هو إقرار المشاريع التعليمية من
مناهج واستراتيجيات تدريس ، حيث توضع الأهداف والأهمية لمثل هذه المشاريع درءاً
لعدم التفكير في مناسبتها .
تعليقات
إرسال تعليق