فلسفة التربية .. ومناهجها
عبدالله مسعود الجهني
تقوم
فلسفة التربية على الفهم والتحليل والتركيب والتعليل والتأمل والنقد لكل المفاهيم والعلاقات
في مجال التربية وتستخدم في ذلك طرقاً علمية يسلكها الباحث للوصول إلى حقيقة ما في
المعرفة الإنسانية ، وغالبية الدراسات الفلسفية تقوم على منهج بحث للتفلسف ،
فالفلسفة تعتبر نشاط ذهني يتصل بمنهج معين .
وما نريد أن نصل إليه عند تناول مناهج
البحث في فلسفة التربية هو :
-
هل جميع مناهج
البحث في فلسفة التربية صالحة لكل المواضيع الفلسفية ؟
-
هل يوجد منهج
بحث فلسفي يرتقي لأن يكون في الأفضلية دون سواه ؟
-
متى نستخدم منهج
بحث فلسفي معين ؟ ومتى نتوقف عن استخدامه ؟
-
هل يمكن أن ندمج
بين منهجين أو أكثر ؟ أم أن الطريقة العلمية تحتم الاستمرار على منهج واحد ؟ ومتى
نستخدم الدمج إن أمكن ؟
أولاً / المنهج الجدلي : الجدل يعني فن إدارة الحوار والمناقشة والاستدلال
على الحقيقة من خلال التناقضات الموجودة في حديث الخصم ، والجدل أيضاً طريقة
للأسئلة والأجوبة واستدلال الحقائق من خلال هذه الأسئلة والأجوبة ، ومن معانيه أيضاً أن يتقابل نقيضان ، أي أن
يجتمعا في محتوى واحد ، وهذا التناقض يؤدي إلى صراعهما حتى يخرج منهما شئ مختلف
عنهما ، وبالتالي يعتبر بالنسبة إليهما خطوة إلي الأمام أو أكثر تقدماً .
ويرتكز المنهج الجدلي على ثلاثة عناصر هي
الطرح والطرح المضاد ثم التركيب ، ومن خلالها يمكننا أن نستشف خصائص هذا
المنهج ، وحسب تصنيفات المناهج وأنواعها ، يعتبر المنهج الجدلي من المناهج
الفلسفية العامة ويؤكد ذلك أن جُل دارسي هذا المنهج يربطونه بالدراسات الفلسفية ، حيث
أن هناك من ينعته بأنه تيار فلسفي مضاد للتيار الميتافيزيقي ، ويقوم على قصور
مختلف الأشياء والأفكار والكون ويلجأ إلى منطق خاص وهو المنطق الجدلي ، الذي يؤكد
على مبدأ التطور الذاتي للأشياء .
ويعتمد المنهج الجدلي على تحليل معاني الألفاظ ، والاتجاه
بالنقد الفلسفي من الجزء إلى الكل ، واعتماد مبدأ عدم التناقض أساساً في الحوار ،
ويعتمد على تدرج المعرفة من المحدود إلى اللامحدود ، وأكثر من اتبع هذا المنهج هو
سقراط والسوفطائيين، حيث يتم طرح سؤال ثم الإجابة عليه من الخصم ثم إيقاع الخصم
في التناقض الظاهر عن طريق طرح سؤال مجدداً والارتفاع بالجواب إلى مستوى أفضل .
ويحتاج المنهج الجدلي إلى حضور ذهني مرتفع ، وذكاء في اختيار
السؤال ، وتقديم إجابة مقنعة و تلبي احتياجات واتجاهات الموجودين ، وأن لا تكون
الإجابة من النوع المغلق والمختصر ، كما أن الأسئلة يجب أن تكون مفتوحة الإجابة
وليست محددة ، ويمكن أن يستفاد من هذا المنهج في المؤتمرات العلمية عند عدم
الاقتناع بفكرة مطروحة أو رأي غير صائب من وجهة نظر المتفلسف .
ثانياً / المنهج
الحدسي : يقوم المنهج الحدسي على اعتبار أن الحدس أساساً للوصول
إلى الحقيقة أو اليقين ، وينظر إلى الحدس على أنه ملكة غير منظورة تختلف كلياً عن
الحواس والعقل ، ويعتمد الحدس على التجريد من دون الانتقال إلى الجزئيات ، وأنه
ليس عرضه للتصحيح أو النقد لكونه يعتمد على الإلهام .
ويقوم الحدس أصلاً على الاعتقاد بقدرة فوق العقلية تمنح النفس
الإنسانية شعوراً بالوصول إلى اليقين من دون تدخل العقل أو الحس ، فالحقائق التي
تتعامل بها الأنظمة الفلسفية ليست كلها حسية أو كلها تجريبية ، فالمبادئ التي تخص
الوجود والله مسائل لا يمكن للمنهج الحسي أو العقلي الخوض فيها ، والنتائج التي
تترتب على المنهج الحدسي في نظر الفلاسفة هي يقينية ولا شك فيها ، وخالية من
التناقض ويسلم بها العقل تسليماً ، والمنهج الحدسي في نظرية المعرفة لا يحتاج إلى
تبرير منطقي للوصول إلى النتائج .
ويمكن القول أن الحدس مَلَكَه تعتمد على الفكرة الإبداعية
الخاطفة شريطة أن تكون واضحة ومؤكدة ليدركها العقل بجلاء ويصنفها بدرجة اليقين حيث
لا يحتملها شك أو ريبة ، والحدس يعبر عن بُعد نظر في التفكير بما وراء العقل
لإدراك الحقائق المجردة التي لا تناقض فيها ولا موضوعية ولا خيالية أو حسية ، وهذا
المنهج تحديداً يجب على كل متفلسف أن يستخدمه في التفكير التأمل ، لتدريب ملكات
العقل على الرقي وبُعد النظر في تناول الموضوعات والأحداث .
ثالثاً /
المنهج التحليلي : هو منهج يراد به اكتشاف عناصر موضوع معين ، من أجل غرض خاص ، وهذا
يعني أن الغرض من التحليل هو تقليل درجة الغموض في المركبات بتوجيه الانتباه إلى
الأجزاء المتعددة التي تتركب منها ، وفلاسفة
التحليل يعتبرون تحليل اللغة هو العمل الأساسي للفلسفة .
ويركز
المنهج التحليلي على الألفاظ والمعاني ، فالفيلسوف التحليلي يفحص المعاني مثل ( العقل
) و ( الحرية ) حتى يقدر المعاني المختلفة التي توصلها هذه الألفاظ في مختلف
السياقات ، ويبين كيف تنشأ صنوف التضارب أو التناقض الداخلي عندما تستخدم المعاني
المتوافقة مع سياقات معينة في سياقات أخرى .
ويقوم المنهج التحليلي على أن التحليلية
فكر يعتمد على اللغة وتحليل ألفاظها ، وأنها تركز على تفكيك المركب إلى عناصره
الأولية سواء كان فكرة أو قضية أو غيرها ، وأن هدفها توضيح المعاني وإزالة الغموض .
ويمكن توضيح فوائد استخدام المنهج
التحليلي من خلال اكتشاف المعاني غير المطروقة للمصطلحات و التعبيرات نتيجة
استخدامها في سياقات مختلفة ، والكشف عن التخبط في التصورات الفكرية و تعرية
مسارات التفكير الناتجة عن القصور في فهم الطريقة التي تستخدم بها اللغة في موقف
معين ، واستبعاد المشكلات و المسائل الزائفة التي توجد نتيجة التصورات المضطربة
غير الواضحة و نتيجة غموض اللغة المستخدمة ، واكتشاف أبعاد المصطلحات التربوية و
التوصل إلى فهم أوضح للعـلاقة بين الفكر و اللغة و الواقع ، وأنه يجعل الفكر الإنساني خارج عن كونه متلقي
قابل لكل ما يملى عليه ، إنما يكون الإنسان مفكراً وناقداً لمختلف القضايا
والأفكار التي تطرح عليه ، حيث يخضعها للنقد والتحليل ومن ثم يقبل أو يرفض في ضوء
ما استنتج .
رابعاً / المنهج النقدي : يعتبر
النقد سمة أساسية في التفلسف الحقيقي ، ولا يوجد فيلسوف إلاّ ومارس دور النقد على
الفلسفة السابقة عليه أو المسايرة له ، وعند الحديث عن المنهج النقدي في الفلسفة
لابد وأن نميز بين النقد البحت والنقد الفلسفي والنقد المنطقي .
فالنقد البحت والذي يشتمل على معارف معينة
أياً كان نوعها أو مصدرها ، يشترط فيه تحليل اللغة التي استعملها المفكر لكشف
البناء اللغوي للعبارات ، ودراسة ما تنطوي عليه العبارات من معاني ، والتمييز بين
المعرفة والنتائج ، وأن تكون المعرفة على جانب كبير من الوضوح ، ودراسة علاقة
المعرفة بمعارف أخرى ومقدار ما تفيده من تلك المعارف سلباً وإيجاباً .
أمّا النقد الفلسفي والذي يتمثل بمعارضة
منطق فلسفي معين بمنطق فلسفي آخر ، فيجب فيه بيان ما في الفكر الآخر من فجوات أو
أخطاء أو تناقض أو عدم انسجام ، وأن يكون الناقد على معرفة دقيقة بالمنهج الفلسفي
للخصم والنتائج المترتبة على تطبيق المنهج ، وأن يكون الناقد واعياً لما يحصل عليه
من نتائج فلربما تكون النتائج معارضة لما يعتنقه الناقد نفسه .
بينما النقد المنطقي والذي يتمثل بنقد
الفيلسوف للمعارف المختلفة والعلوم على وفق قواعد ومبادئ منطقية معينة ، فلا بد
للناقد من امتلاك الأدوات اللازمة لهذا النوع ، وضرورة أن يميز بين الأنواع
الفلسفية موضوع النقد ، وأن يميز بين المفاهيم المعرفة واللا معرفة ، والمبادئ
والمشتقات ، وخلو النظام من التناقض .
ومن خلال الاستعراض السابق لمناهج البحث
في فلسفة التربية ، يتضح لنا أن جميع تلك المناهج تعتبر من أهم الأدوات التي يجب
على المتفلسف إجادة استخدامها في جميع المواقف الفلسفية ، فليس هناك منهج أفضل من
منهج آخر ، ولكن ما يميز المناهج الفلسفية عن بعضها هو المواقف التي تستخدم فيها ،
فليس من المنطق استخدام المنهج الحدسي في موقف مناضرة ، كما أنه ليس من المعقول أن
نستخدم المنهج الجدلي في موقف يتطلب تحليل لغة الخطاب .
ولكل منهج بحث فلسفي قواعد وأُطر يجب أن
يتقنها الفيلسوف ، ومن أهمها سعة الاطلاع ، وتملك اللغة ، والدراية التامة
بالاتجاهات والأفكار الفلسفية ، والإلمام بكيفية طرح الأسئلة الفلسفية والإجابة
عليها بوضوح وجلاء .
إن استخدام مناهج البحث الفلسفي تمثل
صعوبة في بداية الأمر للمتفلسفين ولكنها مع الممارسة والتطبيق تصبح سهلة الاستخدام
فتتحول إلى عادة يعيشها الفيلسوف ويتقنها مع الاستمرار بتناولها في كل المواضيع
المتعلقة بالفلسفة والتي تزخر بها ميادين التربية .
تعليقات
إرسال تعليق