أيهما يسبق الآخر الحرية أم النظام ؟
عبدالله مسعود الجهني

لا يستطيع الإنسان العيش بمعزل عن الآخرين ، ولكنه اجتماعي بطبعه يتفاعل مع الآخرين ويمارس في وسطهم سلوكه وأنشطته المختلفة التي تتناسب مع تكوينه النفسي وطبيعته الإنسانية وتنشأته الاجتماعية ، وهذا السلوك في الغالب لا يتعارض مع قيم المجتمع الذي يمارس فيه الفرد نشاطه .

ومن بين القيم الممارسة في كافة المجتمعات الإنسانية قيمة الحرية ، وإن اختلفت حدود ممارستها والقيود المفروضة عليها من مجتمع إلى آخر بسبب العادات والتقاليد والأعراف المتبعة في كل مجتمع والتي بدورها تضع قوانين لممارسة تلك الحريات بناءً على الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وتستند على ذلك إلى مرجعيات التشريعات السماوية و السلطة الحاكمة .

والنظام في ممارسة الحريات يُعد أساساً في استمرار المجتمع للوقاية من حدوث المشاكل والأزمات بين الأفراد والجماعات والتنظيمات بمختلف أطيافها وتوجهاتها وللسير بالمجتمع نحو بر الآمان لكي لا تطغى حرية مجموعة أو فرد على حريات الآخرين ، فالنظام يضع للحرية حدود ، فإن تجاوزها ممارس الحرية عليه أن يواجه المسؤولية في هذا التجاوز خاصة وإن كان التجاوز يضر بحرية الآخرين ، وبذلك يُحوّل النظام الحرية من مطلقة إلى نسبية .

" فالإنسان إذا أراد أن يعيش في مجتمع فلا بد أن يتنازل عن جزء من حريته لهذا المجتمع ، فكل ما ينقص من حرية الفرد يزيد من حرية المجتمع والعكس صحيح ، لذلك كان شرطاً أساسياً للاستمتاع بالحرية أن لا تتعدى على حرية الآخرين وهي الحرية المسؤولة ، لأن الفرد لا يمكن أن يكون فرداً خالصاً ذا كيان مستقل مقابل لوجود المجتمع إلا إذا تصورنا جدلاً أنه قد اعتزله تمام الاعتزال بجسمه وأفكاره ومعاملاته جميعاً وهذا أمر مستحيل الحدوث عملياً " ( قطب ، ص 111 )

من ذلك نستنتج أنه لايمكن أن تستقيم حياة الأفراد والمجتمعات بدون وجود النظام ، ولا يمكن للمجتمعات أن تتقدم أو تتطور إلا إن مُنح أفرادها الحرية في ممارسة أنشطتهم والتفاعل بسلوكهم ، وبين الحرية والنظام حقوق وواجبات ولكن أيهما يأتي أولاً ويسبق الآخر الحرية بحقوقها أم النظام بواجباته ؟
 
مفهوم الحرية :
يعتبر مفهوم الحرية من المفاهيم التي اختلف الناس في تعريفها اختلافاً كثيراً من مجتمع لآخر ومن عصر إلى عصر ومن ثقافة إلى أخرى بل ومن فرد إلى آخر شأنها شأن سائر المفاهيم المتعلقة بالنشاط البشري ومن هذه التعريفات ما يلي :
-    الحرية هي مقولة فلسفية تعبر عن العلاقة بين النشاط البشري والقوانين الموضوعة للطبيعة والمجتمع ، ويعتبرها الفلاسفة هي تقرير الروح لمصيرها ، و أيضاً حرية الإرشادات وإمكانية التصرف وفق إرادة لا تحدها الظروف الخارجية . ( كرم ، ص 129 )
-    الحرية في معناها الاشتقاقي تعني إنعدام القسر الخارجي ، والإنسان الحر بهذا المعنى هو من لا يتحكم في حركته أحد . ( النشار ، ص 156 )
-     الحرية هي ما يميز الإنسان عن غيره ويتمكن بها من الممارسة والاختيار دون إكراه ضمن حدود معينة . ( الزحيلي ، ص 39 )
    وعلى الرغم من أن التعريف الأول يقرر الحرية المطلقة إلاّ أنها جميعاً تشترك في عدد من العناصر وهي:
أولاً : أن الحرية نشاط بشري .
ثانياً : أن الحرية تقوم على أساس تقرير الفرد لاختياراته واتخاذ قراراته .
ثالثاً : أن الحرية تمارس وفق ضوابط معينة .
وعلى ضوء ذلك يمكن تعريف الحرية بأنها إمكانية الفرد بالتعبير قولاً وفعلاً عن معتقده أو فكره أو رغبته بحيث لا تصل به هذه الإمكانية إلى المجاهرة فيما يخالف التشريعات السماوية أو يمس الصالح العام أو مصادرة حقوق الآخرين وحرياتهم دون وجه حق .
 
الحرية والنظام :
        الحرية قيمة إنسانية سامية أقرتها كل الأديان السماوية بل إن الأصل في حياة الإنسان أن يكون حراً في اختياراته وافكاره ومعتقداته ، فقد خلق الله الإنسان حراً مخيراً في كل ما يفعله ( وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ) ( الكهف ، 29 ) .
        ولكي لا ينحرف الإنسان بحريته فيتعدى على حرية الآخرين زوده الله بالعقل الذي ينير أمامه الطريق ، وأيضاً بالضمير لكي يميز بين الخير والشر ، ونظراً لاختلاف الفروق الفردية بين الناس وخاصة مايتعلق بالنواحي الفكرية والعقلية فقد جاء النظام ليضع حدوداً للحرية ويقنن ممارستها بحيث لا تتجاوز حدود حريات الآخرين ولا تسبب الضرر للصالح العام أوحتى للفرد نفسه ، فممارسة الحرية في إيذاء النفس كتعاطي المخدرات أو الانتحار تعتبر حرية تؤدي إلى الأذى ليس على الفرد نفسه بل يصل أذاها إلى المجتمع الذي رباه ورعاه ومكلف هو بخدمته وآداء واجبه نحوه .
                       
        والنظام ينبثق من مصدرين فإما تشريع سماوي يراعي العلاقات بين الأفراد ومصلحة المجتمع و سلامة الفرد نفسه ، وإما من وضع بشري تتداخل فيه المصالح وتختلف حوله الآراء ويظهر من خلاله أساليب القسر والقهر في الحريات والسلوك الموجه لصالح طبقة دون أخرى .
        ومع ذلك فالحرية لازمة لإصدار نظام يحدد حقوقها وواجباتها ، والنظام لازم ليمارس الفرد حريته بمسؤولية ، فكما أنه لا بديل عن الحرية إلا القهر والعبودية فأيضاً لابديل عن النظام إلا العبث والفوضى .
        فالحرية والنظام متلازمان ويسيران إلى جانب بعضهما لتحقيق أمان المجتمع وسلامته ولحفظ الحقوق ولدرء المساوئ المحتملة من استخدام حرية مطلقة وغير متزنة ، حيث أن للفرد ممارسة حريته بحيث لا يعتدي على حريات الآخرين وحقوقهم ، فلا تستخدم الحرية في إهانة الغير ولا في السب والقذف ، ولا أن تبنى راحته على تعب الآخرين ، وليس من الحرية استخدام العنف ضد الآخرين ، والإنسان حر في حدود ما أقرّه الشرع فلا يعصاها ويسلك حسب هواه ، وهو أيضاً حر في حدود الالتزام بالنظام العام والآداب العامة وبقوانين البلد الذي يعيش فيه .
        ولهذا فإن الذي يتجاوز حدود حريته المنضبطة فإن النظام يلزمه بذلك والعقوبة تردعه ، ودليلاً على ذلك فإنه في أكثر البلاد تمسكاً وداعية إلى الحرية لا يستطيع أحد أن يكسر قواعد المرور وإشاراته .
 
النظام بين تقييد الحرية وضبطها :
        النظام والحرية هما بمثابة كفتي ميزان ، لابد من تواجدهما معاً في تقابل لأجل تعزيز الاستقرار وتفعيل النماء معاً في تزامن ، ففي كفة الحرية ننشد ممارسة الإنسان لحياته وتفعيل مبدأ الخيار وتقرير الرغبات وتحديد الاتجاهات الفكرية والعقائدية وممارسة حق التعبير قولاً وفعلاً واتخاذ القرار دون ضغوط ، أما في كفة النظام فنحرص على حماية الصالح العام المشترك والصالح الإنساني فلا إفراط في ممارسة الحرية ولا تفريط في كبح جماحها المطلقة وأيضاً لا قهر في نظام يحد من الحرية في حدودها المنضبطة ولا استعباد يمنع من ممارسة الحرية .
        فالنظام في الأصل يوضع لممارسة حرية منضبطة للجميع ليس فيها إفراط ولا تفريط ولا يقابلها قهر أواستعباد ، فالوضع الطبيعي للفرد في مجتمع موازن بين الحرية والنظام لا يتحصل إلاَ عندما يتمتع الفرد بالحرية فيما يفكر ويعبر وفيما يتصرف إزاء ما يعنيه شخصياً دونما ضرر يقع منه على الآخرين أو على الصالح العام يقابل ذلك امتناع السلطة الحاكمة عن تقييد حرية الفرد أو حدها عن طريق النظام .
        نستخلص من ذلك أن النظام الصحيح هو في الواقع حماية للحريات يضبطها ويقننها وليس قيداً عليها أو حداً لممارستها ، ولكن ممارسات بعض السلطات الحاكمة في استخدام النظام لقهر حريات الأفراد و تحييد اختياراتهم وقراراتهم هي من يقيد الحرية و يمنعها وبالتالي يصبح هذا النظام معول هدم للمجتمع من خلال استعباد الناس وقهرهم وإذلالهم في أبسط حقوقهم التي منحها لهم الله سبحانه وتعالى .
الأسبقية والملازمة بين الحرية والنظام :
        هناك اختلاف في الآراء حول ترتيب الأسبقية بين الحرية والنظام وتنقسم تلك الآراء إلى ما يلي :
-    الحرية تسبق النظام : ويعلل أصحاب هذا الرأي أن الحرية إنما جاءت قبل الأنظمة ونظراً لممارسة الحرية بشكل خاطئ وضع النظام لضبط ممارستها .
-    النظام يسبق الحرية : يرى أصحاب هذا الرأي أن الإنسان عندما يولد يستقي حريته من مبادئ وعادات وأعراف مجتمعه وبالتالي فإن النظام يسبق الحرية التي يمارسها الإنسان .
-    النظام ملازم للحرية : يرى أنصار هذا الرأي أن الحرية والنظام متلازمتان فالحرية لها حدود والنظام وضع لمنع تجاوز هذه الحدود .
        مما سبق نلاحظ أن كل فريق يستند على سبب منطقي في اختياره ، وعليه وبعد الرجوع إلى أول إقرار للحرية في حياة البشرية ومن خالق الإنسان جل وعلا نستطيع أن ندرك أن النظام ملازم للحرية ولا يسبق أحدهما الآخر فلا حرية بدون نظام ولا نظام إلاً لصالح الحرية ، ويتضح ذلك جلياً في قوله تبارك و تعالى : ( وقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ) (البقرة ، 35 )
        فقوله تعالى في الآية السابقة يقرر مبدأ الحرية في الأكل ( وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا ) ثم يضع النظام لهذا النوع من الحرية ( وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ ) فمن سياق الآية يتضح أن الحرية سبقت النظام في الإقرار ولكن النظام لم ينفصل عن الحرية بل جاء ملازما لها ومتصلاً بالسياق وقد يكون سبباً في منح الحرية ، وإلا لم توضع حدود لحرية الأكل في الآية السابقة ، فالحرية قد تسبق النظام نظرياً ولكنها ملازمة له تطبيقياً والنظام قد يكون سبباً في منح الحرية لذلك يسبقها .
والله تعالى أعلم ...
 
المراجع :
-        القرآن الكريم .
-        الزحيلي ، وهبة مصطفى ( حق الحرية في العالم ) ، مكتبة المدينة ، القاهرة
-        قطب ، محمد ( الإنسان بين المادية والإسلام ) ، دار الشروق ، بيروت ، 1995
-        كرم ، سمير ( الموسوعة الفلسفية : وضع لجنة من العلماء السوفييت ) ، دار الطليعة ، لبنان ، ط7 ، 1997
-        النشار ، مصطفى ( مدخل إلى الفلسفة : النظرية والتطبيقية ) ، دار قباء الحديثة ، القاهرة ، 2010
 

 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوكمة في مؤسسات التعليم العام

التعليم المتمايز .. من أجل العدالة بين الطلاب

سلسسلة مواضيع في القيادة المدرسية | 2 |