خارطة الطريق للسيطرة على العالم




 
عبدالله مسعود الجهني
 
 

 
منذ بدء الخليقة ومحوري الخير والشر في صراع مستمر ، وكل منهما يستخدم أساليب مختلفة عن الآخر لفرض إيقاعه على الحياة ، وإن كانت الغلبة الظاهرية لأحدهما فإن الصراع لم ولن ينتهي أبداً مادام المحركين للمحورين يستنشقون نفس الهواء ويعيشون على نفس الأرض .
وعبر التاريخ السحيق للإنسانية على سطح الأرض لم تمر سنة بدون دمار أو خراب أو إزهاق لروح بريئة أو إعدام لبيئة لا ذنب لها سوى أنها احتوت هذا الإنسان الذي سعى في خرابها ودمارها ، وليس أبلغ حجة على ذلك من أحداث الحرب العالمية الأولى والثانية ، ففي الحرب العالمية الأولى والتي استمرت نحو الأربع سنوات لقي أكثر من ( 9 ) ملايين إنسان حتفه ، هذا فضلاً عن الجرحى والمصابين ، أما في الحرب الثانية والأكثر شناعة والتي استمرت ست سنوات فقد قتل وأصيب مابين ( 50 – 85 ) مليون إنسان ، بالإضافة إلى ما خلفته الحرب من دمار شامل في أنحاء متفرقة من العالم ، فعندما تذكر هيروشيما أو نجازاكي يتبادر إلى أذهان من لم يعيشوا تلك الفترة ويلات الحروب ومفهوم الأرض المحروقة بكل معانيه .
إن المتتبع للأحداث العالمية يستطيع أن يستنتج خطط الشياطين البشرية في سعيهم الحثيث للسيطرة المادية على العالم ، حيث ترتكز تلك الخطط وتتمحور على مبدأ ( فلتسقط المبادئ ) في سبيل المصالح المادية ، ومبدأ ( سحقاً للإنسانية ) في سبيل سعي الإنسان للسيطرة على الإنسان .
لقد أفرزت تلك الأطماع والحروب والنزاعات العديد من المؤشرات المتدنية في السوء بما فعله الإنسان بحق الإنسان ، ففي معظم أنحاء العالم يعيش أطفال أبرياء على هامش الحياة محرومين من حاجات الطفولة بدون رعاية أو أمن أو تربية أو تعليم أو رفاهية كغيرهم من الأطفال ، وتتشرد أُسر بدون مأوى أو طعام أو كساء يقيهم قسوة برد الشتاء ، فتكالبت عليهم أطماع شياطين الإنس والظروف الطبيعية وانعدام التكافل الإنساني لمعظم البشريين .
          إن التداول السياسي لمفهوم السيطرة يتمركز حول السيطرة على الأرض وبالتالي الموارد الطبيعية واستغلال الإنسان وانتعاش الاقتصاد للدول المسيطرة ، وجميعها سيطرة مادية بحته ، ولكن الإنسان يسأل الشياطين البشرية ... وماذا بعد ؟
 
          إننا نضع هذه الورقة كردة فعل مضادة على خطط الشياطين البشرية ، وسنسعى فيها لرسم خارطة الطريق للسيطرة على العالم من أجل السمو الإنساني ، وفق خطط ترتكز على مبدأ ( المبادئ أسلوب للحياة ) و مبدأ ( الإنسانية فوق كل اعتبار ) .
          وفي طريقنا لتحقيق النموذج المثالي للسيطرة العالمية من أجل الإنسانية يقودنا التفكير والتأمل بمفاهيم السيطرة والمبادئ والإنسانية إلى عدد من التساؤلات التي تحتاج إلى بحث متعمق في ماهية تلك المفاهيم وآثارها في الحياة ، ومن أهم تلك التساؤلات في هذا المجال :
-ما هي السيطرة المثالية على الإنسانية ؟ وهل يمكن السيطرة على جميع أنواع البشر ؟
-كيف تكون السيطرة المثالية ؟ وهل هي عقلية أو روحية ؟ أم بهما معاً ؟
-هل يشترك الناس في جميع المبادئ الإنسانية ؟ أم هناك اختلاف فيما بينهم ؟
-ما أهمية المبادئ الإنسانية في تقريب وجهات النظر بين الناس في مختلف دول العالم ؟
-متى يكون الإنسان إنسانياً ؟ ومتى يكون الإنسان شيطاناً إنسانياً ؟
-كيف يمكن السيطرة على شعوب العالم بدون خراب أو دمار أو قتل أو تشريد ؟
 
  أفراد بلا إمكانيات يسيطرون على العالم :
          منذ أن تم استخدام أول أداة لقتل الإنسان والمتمثلة في ( الحجر ) وحتى وقتنا الحالي ، فإن السيطرة على العالم في الفكر الحديث لدى الغالبية العظمى من الناس تتمحور حول استخدام أساليب عسكرية واقتصادية لجعل الطرف الآخر يعيش تحت الضغط مما يؤدي به إلى الاستسلام والخضوع لتحقيق أهداف مادية من قِبل الطرف المسيطر .
وعلى الرغم من ذلك فهناك نماذج من الأفراد خالفت هذا التصور واستطاعت السيطرة على أجزاء من العالم بدون أي إمكانيات مادية أو استخدام للقوة أو سعي للتسلح العسكري ، ولكنهم امتلكوا إمكانات مكنتهم من فرض أفكارهم على مجموعة كبيرة جداً من البشر لم يكن يجمع بينهم سوى الصراع والثأر وفكر الخراب والتدمير ، فألفوا بينهم من خلال التأثير على أفكارهم عقلياً وروحياً بالحكمة والموعظة والقدوة الحسنة ، حتى وإن اختلفت الإيديولوجية العقائدية لتلك النماذج ، إلاً أن ما جمع الأفراد الذين سيطروا على أجزاء من العالم رغم تباعدهم المكاني والزماني هو العمل وفق مبادئ تجعل من الإنسان مقدماً على كل المصالح مهما كان هذا الإنسان ومهما كان وضعه المادي والاجتماعي والنفسي ، ومن هؤلاء الأفراد ما يلي :
 
1-المهاتما غاندي : اسمه موهانداس كرمشاند غاندي ، ولد في 2 أكتوبر 1869 وتوفي 30 يناير 1948  ، درس غاندي القانون في لندن ، واكتشف المسيحية ، وقرأ الإنجيل بتمعن شديد مستلهماً منه دروساً ومواعظ كثيرة في الأخلاق وفي السياسة .
           أسس غاندي ما عرف في عالم السياسية بالمقاومة السلمية أو ( فلسفة اللاعنف ( ، وهي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وسياسية واقتصادية في آن واحد ملخصها الشجاعة والحقيقة واللاعنف ، وتهدف إلى إلحاق الهزيمة بالمحتل عن طريق الوعي الكامل والعميق بالخطر المحدق وتكوين قوة قادرة على مواجهة هذا الخطر باللاعنف أولا ثم بالعنف إذا لم يوجد خيار آخر.
وقد أوضح غاندي أن اللاعنف لا يعتبر عجزا أو ضعفا ، ذلك لأن " الامتناع عن المعاقبة لا يعتبر غفرانا إلا عندما تكون القدرة على المعاقبة قائمة فعليا "، وهي لا تعني كذلك عدم اللجوء إلى العنف مطلقا "إنني قد ألجأ إلى العنف ألف مرة إذا كان البديل إقصاء عرق بشري بأكمله". فالهدف من سياسة اللاعنف في رأي غاندي هي إبراز ظلم المحتل من جهة وتأليب الرأي العام على هذا الظلم من جهة ثانية تمهيدا للقضاء عليه كلية أو على الأقل حصره والحيلولة دون تفشيه.
وتتخذ سياسة اللاعنف عدة أساليب لتحقيق أغراضها منها الصيام والمقاطعة والاعتصام والعصيان المدني والقبول بالسجن وعدم الخوف من أن تقود هذه الأساليب حتى النهاية إلى الموت .
يشترط غاندي لنجاح هذه السياسة تمتع الخصم ببقية من ضمير  وحرية تمكنه في النهاية من فتح حوار موضوعي مع الطرف الآخر.
 
2-نيلسون مانديلا : ولد في 18 يوليو 1918 وتوفي 5 ديسمبر 2013 ، درس الابتدائية في مدرسة داخلية عام 1930، ثم بدأ الإعداد لنيل البكالوريوس من جامعة فورت هار ، ولكنه فصل من الجامعة ، عام 1940 بتهمة الاشتراك في إضراب طلابي ، وعاش مانديلا فترة دراسية مضطربة وتنقل بين العديد من الجامعات و لقد تابع مانديلا الدراسة بالمراسلة من مدينة جوهانسبرج ، وحصل على الإجازة ثم التحق بجامعة ويتواتر ساند لدراسة الحقوق.
وهو الرئيس الأسبق لجمهورية جنوب إفريقيا ، وأحد أبرز المناضلين والمقاومين لسياسة  التمييز العنصري  التي كانت متبعة في جنوب أفريقيا ، دائما ما اعتبر مانديلا أن المهاتما غاندي المصدر الأكبر لإلهامه في حياته سواء لفلسفته حول نبذ العنف والمقاومة السلمية ومواجهة المصائب والصعاب بكرامة وكبرياء.
تركزت مبادئ نيلسون مانديلا وأفكاره حول مقاومة الاستبداد والتمييز العنصري وأن الحرية حق للجميع ، وتمثلت المعجزة الأخلاقية التي حققها مانديلا في نقل بلاده إلى عصر الحرية والمساواة بطريقة ديمقراطية سلمية , بينما كانت جنوب إفريقيا مرشحة وبقوة للدخول في نفق مظلم من الحرب الأهلية , وبحور من الدم والعنف والخراب .
وتجسدت بطولة مانديلا في تحويله مجتمع يقوم علي التفرقة العنصرية وأسوأ درجات العبودية وإزهاق الكرامة الإنسانية , إلي مجتمع حر يسود فيه الاحترام بين الجميع ويتمتع فيه الأسود والأبيض معاً بحقوق وواجبات متساوية .
 
3-محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم : ولو قدمناه لاكتفينا به قدوة ومثل في الأخلاق والمبادئ والقيم والتعامل مع الآخرين بكل أصنافهم وأطيافهم وخيرهم وشرهم ، فقد جاء في زمن احتوى على قليل من الفضائل وكثير من الجهل والتعنت والفوضى الأخلاقية ، واستطاع صلى الله عليه وسلم بما وهبه الله تعالى من صفات أخلاقية وقيم ومبادئ أن يؤلف بين الأضداد ويلين ما قسي من القلوب ويفتت ما تصلب من الأفكار من خلال أفعاله ومعاملاته مع الآخرين .
          وعن مبادئه صلى الله عليه وسلم فيكفي قوله تعالى : ( وإنك لعلى خلق عظيم ) ، ولا يسع المجال هنا لذكر مبادئ الرسول صلى الله عليه وسلم أو حتى بعضاً منها ، ولكن من أهم تلك المبادئ والتي يفتقد إليها معظم الناس في العصر الحديث : الحلم و حُسن الظن ، والعفو والتسامح ، والوضوح في التعامل ، والمحبة والرحمة ، والتواضع ولين الجانب ، والعدل ، والصدق ، والأمانة .
 
المبادئ أسلوب للحياة :
          المبادئ مفردها مبدأ ، والمبدأ هو أول الشيء ومادته التي يتكون منها ، والقواعد الأساسية التي يقوم عليها ، والمبدأ هو الفكر الأساسي الذي تبنى عليه أفكار ، والمبادئ هي خلاصات فكرية ومعايير تربوية ومؤشرات أخلاقية ، وإنسانية ودينيَّة توجه الفرد للأهداف العامة ، وتقوم أهدافه الخاصة تجاهها ، تضيء له مسارات الحياة منفرداً ومتعاملاً مع الآخرين ومشاركاً لهم في الخير والحق وفي مواجهة الشر والباطل ، فهي الممارسات السلوكية الآخذة موقعها من الثقافة الإنسانية حينما تؤمن بها أعداد كبيرة من البشر في أماكن ومجتمعات متنوعة مختلفة قد لا تجمعهم قرابة أو لغة أو دين أو ثقافة ، فهي مفاهيم فلسفية ذات آفاق رحبة يقلُّ الجدل حولها .
          لذلك فإن الإنسان يشترك مع الآخرين باختلاف أعراقهم وإيديولوجياتهم بالعديد من المبادئ الأخلاقية والإنسانية والتي تكفل له العيش بسلام على الأرض متى ما استحضر تلك المبادئ في تعامله مع الآخرين .
          إن ترجمة الإنسان لمبادئه سلوكاً يمارسه في علاقاته مع الآخرين ، وينتقل به من الأقوال إلى الأفعال يجعل لتلك المبادئ بالغ الأثر في تقبل الآخرين له ، مما يُسهل من عملية التواصل والاتصال وبالتالي سهولة التأثير في أفكار الآخرين عقلياً وروحياً ، لذلك كان أول مبدأ في خطة خارطة الطريق للسيطرة على العالم هو مبدأ ( المبادئ أسلوب للحياة ) ونعني بها أن مبادئ الخير متى ما تأصلت في نفوس الناس ساعدتهم على التأقلم مع جميع الظروف وفي كل الأماكن للتعامل مع الآخرين ، وأن الممارس لتلك المبادئ سيحقق السعادة ويلمس الجمال من خلال ردة فعل الآخرين تجاهه .


الإنسانية فوق كل اعتبار :
          لعل من أبرز أسباب الصراع والعدوان بين الدول والجماعات والأفراد غياب الإحساس والشعور الإنساني لنتائج تلك الصراعات وما ستؤول إليه الأحداث بعد تحقيق الأطماع على الطرف الخاسر .
          فإلقاء قنبلة نووية على هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين اعتبرته بعض الأطراف نجاحاً باهراً ومنقطع النظير أدى إلى تحقيق مكاسب مادية هائلة واستسلام دولة بسكانها ومواردها لدولة أخرى ، بينما من وجهة نظر إنسانية ، يعتبر ذلك وصمة عار للإنسانية بفعل إنسان تجاه إنسان آخر مسالم لا ذنب له سوى أنه عاش على تلك الأرض التي تلقت ما ابتدعه فكر شياطين البشرية .
وأي قلب إنسان يحتمل صورة ذلك الطفل الصغير من هيروشيما والذي لم يتجاوز العاشرة من عمره وهو يجر جلده خلفه من أثر الحروق التي اكتسحت جسده النحيل ، لذلك كان لزاماً علينا السير قُدماً في خطة السيطرة على العالم من أجل البشرية وقفاً لإهدار دم الأبرياء جراء أفعال الإنسان بالإنسان .
          فالله سبحانه وتعالى كرم بني آدم في باعتباره إنسان بغض النظر عن ديانته وتوجهاته وإيمانه ومعتقداته ، قال تعالى : ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ( الإسراء : آية 70 ) ، ولكن الإنسان لم يقدر الإنسان ولم يحترمه ولم يعطف عليه أو يرحمه ، فكم من طفل محروم وكم من عاجز مشرد ، وكم من فقير مكلوم ، وكم من أنثى مهانة ، وكم من رجل مغبون ، وكل ذلك مرهون بأطماع الآخرين .
لذلك فالإنسانية يجب أن تقدم على جميع المصالح دون استثناء ، إلاّ إن اعترضت على المبادئ ولن تعترض ، فمبادئ الخير تحمل السعادة والرفاهية للإنسانية جمعاء .
 
طريقك للسيطرة على العالم :
          لتبدأ في طريق التأثير على الآخرين ، إبدأ بنفسك أولاً في إصلاحها وفق مبادئ الخير التي تؤمن بها وترتكز عليها كما تحب أن يعاملك بها الآخرين ، فقد جاء في صحيح مسلم قوله صلى الله عليه وسلم : ( من أحب أن يُزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته مَنِيّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأتِ إلى الناس الذي يُحِبّ أن يُؤتَى إليه  ) . وهو حديث مطابق لمقولة ( عامل الناس كما تحب أن يعاملوك ) .
          وديننا يأمرنا بأن نتعامل مع الآخرين باللين والحكمة والموعظة الحسنة ، ونبتعد عن ما يثير الفتن ويوغل الصدور ، فالإسلام انتشر بحسن المعاملة ، وتغيرت صورته حالياً بفعل بعض المنتسبين إليه والذين شوهوا الصورة الحقيقية للإسلام في تصور الآخرين .
          وليكن لك تأثير على الآخرين من خلال أخلاقك ومبادئك وقيمك قولاً وفعلاً تمارسها في تعاملك معهم حتى وإن كانوا أعداء ، فكم من عداوة تحولت إلى صداقة من خلال التعامل بالأخلاق والقيم .

 



 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

الحوكمة في مؤسسات التعليم العام

التعليم المتمايز .. من أجل العدالة بين الطلاب

سلسسلة مواضيع في القيادة المدرسية | 2 |